كتابة: مارينا ساريس
تاريخ النشر: 8 أغسطس 2024
مع التقدم المتسارع في علم الوراثة، أصبحت اختبارات الحمض النووي أداة فعالة لفهم أسباب التوحد، خاصةً في ظل تباين خصائصه وتأثيراته من شخص لآخر. تثير الأسئلة حول من هم الأفراد ذوو التوحد الأكثر استفادة من هذه الاختبارات، وماذا يمكن أن تخبرنا النتائج الجينية عن الفروقات الفردية في هذا الطيف؟ في هذا السياق، تقدم دراسة “سبارك” (SPARK)، إجابات مهمة تستند إلى تحليل شامل لتسلسل الحمض النووي لعشرات الآلاف من المشاركين.
من الأكثر استفادة من اختبارات الحمض النووي من بين الأفراد ذوي التوحد؟ وماذا يخبرنا الحمض النووي عن سبب اختلاف التوحد من شخص لآخر؟
قدمت دراسة “سبارك” (SPARK)، وهي أكبر دراسة من نوعها عن التوحد، إجابات على هذه الأسئلة في ورقة بحثية حديثة. فقد حللت نتائج تسلسل الحمض النووي لأكثر من 21,000 مشارك من الأفراد ذوي التوحد ووالديهم.ووجد الباحثون تغيرات في الحمض النووي تسببت في التوحد لدى 1,861 طفلاً وبالغًا، أي ما يقرب 9% من المشاركين الذين تم اختبار تسلسل حمضهم النووي.
وأظهرت الدراسة، التي أُجريت بالتعاون بين باحثين من “سبارك” وعدة جامعات، أن الأفراد الذين لديهم تغيرات جينية يشتركون في بعض السمات. فقد كانوا أكثر عرضة من غيرهم للإصابة بحالات طبية معينة، وتشخيصهم منذ أكثر من 20 عامًا، وكانوا في الغالب من الإناث.
تُبلغ “سبارك” المشاركين إذا تم العثور على تغير جيني لديهم، في حال رغبوا بمعرفة ذلك. تقول الدكتورة ويندي تشونغ
Dr. Wendy Chung ، رئيسة قسم طب الأطفال في مستشفى بوسطن للأطفال والباحثة الرئيسية في الدراسة: “نتعلم معًا، ومن المهم أن تُتاح للمشاركين فرصة التعرف على أنفسهم من خلال دراساتنا”.
السمات المرتبطة بوجود سبب جيني للتوحد:
الأشخاص ذوو التوحد ممن لديهم واحدة أو أكثر من الحالات التالية كانوا أكثر احتمالًا بمرتين إلى خمس مرات لوجود سبب جيني للتوحد لديهم:
- تأخر أو صعوبات إداركية
- تأخر في المهارات الحركية
- اختلافات جسدية مثل عيب خلقي في القلب، أو الشفة الأرنبية، أو قصر القامة، أو حجم رأس صغير أو كبير بشكل غير معتاد
- نوبات أو صرع
- حول في العينين
- عدم التحكم في الإخراج (البول أو البراز) في السن المتوقع في الطفولة
ما يقارب ثلث الأفراد الذين ظهرت لديهم ثلاث سمات أو أكثر من القائمة أعلاه، وُجد لديهم تغير جيني مسبب للتوحد. كما وُجد أن من تم تشخيصهم بالتوحد قبل أكثر من 20 عامًا كانت لديهم هذه الحالات الطبية بشكل أكبر، وكانوا أكثر احتمالًا بنسبة 50% لوجود تغير جيني مقارنة بمن تم تشخيصهم مؤخرًا. وقد يكون ذلك نتيجة لتطور الوعي بالتوحد وتغير معايير التشخيص بمرور الوقت، بحسب الدكتورة جيسيكا رايت Dr. Jessica Wright ، العالمة في “سبارك” والمؤلفة الرئيسية للدراسة. اليوم، يُشخَّص عدد أكبر من الأفراد ذوي التوحد ممن لا يعانون من إعاقة عقلية، مقارنة بما كان عليه الوضع قبل عقود.
فهم أوسع للحالات الجينية النادرة:
بعض المشاركين في “سبارك” حوالي 4% وُجد لديهم سبب جيني للتوحد، رغم أنهم لم يكونوا يعانون من صرع أو صعوبات إدراكية أو غيرها من الحالات المرتبطة عادة بالتغيرات الجينية. وهذا مهم لأنه يوسع من فهمنا لتأثير الحالات الجينية على الأفراد.
ويعود جزء من هذا الاكتشاف إلى طبيعة اختيار المشاركين في “سبارك”. فعلى عكس الحالات الأخرى التي تتطلب زيارة طبيب مختص ليقرر إجراء الفحص الجيني ثم موافقة شركة التأمين، فإن المشاركين في “سبارك” أكثر من نصفهم تعرفوا على الدراسة عبر الإنترنت أو وسائل التواصل الاجتماعي و أرسلوا عينات اللعاب من المنزل مجانًا وتقوم الدراسة بتحليل الحمض النووي لكل من يقدم عينة، دون استثناء.
تأثير الجنس عند الولادة:
رغم أن التوحد يُشخَّص أكثر لدى الذكور، فقد وجدت دراسة “سبارك” وغيرها أن الإناث ذوات التوحد أكثر احتمالًا لوجود تغير جيني يسبب التوحد. لطالما اشتبه العلماء في أن الإناث محميات جزئيًا من التوحد. فبحسب إحدى النظريات، قد يكون لدى العديد من الأشخاص تغيرات جينية بسيطة، لكن الفتيات أقل عرضة لتطور التوحد بسببها مقارنة بالذكور.لكن عندما يظهر التوحد لدى الأناث، فمن الأرجح أن يكون نتيجة تغير جيني كبير، مثل تلك التي كشفتها اختبارات “سبارك” باستخدام ما يُعرف بتسلسل الإكسوم.
مسارات جينية متعددة تؤدي إلى التوحد:
تمامًا كما تختلف خصائص التوحد من شخص لآخر، تختلف الجينات المرتبطة به أيضًا. فقد وجدت الدراسة أكثر من 400 تغيرًا جينيًا أو على مستوى الكروموسومات لدى المشاركين من ذوي التوحد. وكان أكثر من 40% من هذه التغيرات الجينية تؤثرعلى شخص واحد فقط. أما التغير الأكثر شيوعًا حذف في جزء من الكروموسوم 16 فلم يظهر إلا لدى أقل من 1% من المشاركين. على عكس بعض الدراسات، تُبلغ “سبارك” المشاركين إذا تم اكتشاف تغير جيني لديهم. ويستطيع المشاركون اختيار معرفة النتيجة، ومعظمهم يرغب بذلك. يمكنهم أيضًا اختيار إرسال النتيجة إلى طبيبهم، أو الحصول على استشارة وراثية مجانًا.
الأثر الشخصي لاختبار الحمض النووي:
عائلة “كينغ” من ولاية واشنطن انضمت إلى “سبارك” رغبةً في المساهمة في البحث حول التوحد الذي يؤثر على ابنهم “ترافيس”. تقول والدته، تريسا كينغ:”كنا نعلم أننا نريد المشاركة في دراسة عن التوحد، لكن لم نكن متأكدين مما إذا كنا سنتعلم شيئًا. وانتظرنا عامين للحصول على نتيجة”. وقد أخبرتهم الدراسة بوجود تغير جيني لدى ترافيس. وتقول تريسا:”عندما تلقينا النتيجة، شعرنا بالمفاجأة والحماس، لأننا عرفنا ما هي الخطوات التالية لمساعدة ابننا… وهذه الطريقة تجعل من ترافيس شخصًا يساهم في مساعدة من هم مثله”.
ترافيس، البالغ من العمر الآن 20 عامًا، لديه تغير نادر في جين يُعرف باسم CUL3. معظم التغيرات الجينية التي اكتشفتها “سبارك” لم تكن موروثة من الوالدين، وهذا ينطبق على ترافيس أيضًا. يرتبط جين CUL3، بالإضافة إلى التوحد، بارتفاع ضغط الدم. وبناءً على هذه المعلومة، غيّر طبيب ترافيس دواءً كان يسبب تقلبًا كبيرًا في ضغط دمه.
ووفقًا لدراستين حديثتين، أبلغ مشاركون آخرون في “سبارك” عن فوائد مماثلة بعد معرفة نتائجهم الجينية. بعضهم علم أن التغير الجيني يرتبط بمخاطر صحية أخرى. بينما اكتشف آخرون تغيرات نادرة جدًا لا تتوفر حولها معلومات طبية كافية. وأفاد بعض الأهالي أن معرفة الحالة الجينية لطفلهم ساعدتهم على فهم احتياجاته بشكل أفضل.
حتى الآن، لا توجد دراسات منشورة حول تأثير التشخيص الجيني على البالغين المستقلين من ذوي التوحد. لكن في مقابلات مع ثلاثة منهم ممن حصلوا على نتيجة من “سبارك”، أعربوا عن سعادتهم بالمساهمة في البحث ومعرفة شيء جديد عن أنفسهم.
تقول د. جيسيكا رايت Dr. Jessica Wright ، المؤلفة الرئيسية: “من الصعب وصف مدى أهمية معرفة هذه التغيرات الجينية بالنسبة للأشخاص الذين تساءلوا عن أنفسهم أو عن أحد أفراد أسرهم لسنوات، حتى لو لم تغير النتيجة على الفور طريقة تعاملهم مع الرعاية الطبية. بالنسبة للأشخاص ذوي التوحد، قد تكون خطوة إضافية لفهم ذواتهم. وبالنسبة للعائلات، قد تزيل مشاعر الذنب، أو تمثل نهاية رحلة تشخيص طويلة. نحن فخورون جدًا بأننا استطعنا توصيل هذه النتائج للمشاركين في دراسة بهذا الحجم الكبير”.
هل تعني النتيجة السلبية في اختبار الحمض النووي أن التوحد ليس جينيًا؟
ستقوم “سبارك” بإعادة تحليل الحمض النووي للمشاركين الذين لم تُكتشف لديهم تغيرات جينية، لأن الباحثين لا يزالون يكتشفون متغيرات جديدة. فقد يكون لدى بعض المشاركين تغير جيني لم يتم ربطه بالتوحد بعد. بدأ الباحثون أولًا بالتعرف على المتغيرات التي لها تأثير كبير في التوحد، لأنها كانت أسهل في الاكتشاف بسبب ارتباطها الواضح بالإعاقة الإداركية أو التوحد. ومع مرور الوقت، يأمل العلماء في اكتشاف متغيرات أخرى، منها ما لا يسبب التوحد بمفرده، وغالبًا ما يكون موروثًا. تختم الدكتورة تشونغ Dr. Wendy Chung بالقول:”نأمل أن يستخدم الأشخاص ذوو التوحد وعائلاتهم هذه المعلومات لفهم أنفسهم بشكل أفضل، وتحقيق كامل إمكاناتهم”.
تُظهر نتائج دراسة “سبارك” أن اختبارات الحمض النووي يمكن أن تقدّم للأفراد ذوي التوحد وأسرهم معلومات قيّمة تساعد في فهم الأسباب الجينية المحتملة للتوحد، بل وتفتح أحيانًا أبوابًا جديدة في الرعاية الصحية والتخطيط للمستقبل. ومع استمرار الباحثين في اكتشاف متغيرات جينية جديدة، فإن اختبار الحمض النووي لا يُعد نهاية الطريق، بل بداية لفهم أعمق وأكثر دقة لهذا الاضطراب المتنوع. إن معرفة الجوانب الجينية قد تسهم في تمكين الأفراد ذوي التوحد وعائلاتهم من التعرف على احتياجاتهم بشكل أفضل، والشعور بالطمأنينة حيال رحلتهم الخاصة.
لتسجيل ابنك أو ابنتك في خدمات التشخيص في مركز التميز للتوحد على الرابط التالي (هنا)
المصدر:
Sarris, M. (2024, August 8). What Can Autistic People Learn From Genetic Testing? SPARK for Autism. https://sparkforautism.org/discover_article/genetic-testing-autism/
ترجمة: د. رفيف السدراني – رئيس قسم المحتوى والتوعية في مركز التميز للتوحد