هيمن كل من ليو كانرLeo Kanner و هانز أسبرجر Hans Asperger على كل قصة تخص التوحد، مما جعلهم “رواد أبحاث التوحد” ولمدة 40 عامًا. نشر هذان الرجلان في عام 1943 و 1944 الوصف الأولي للتوحد، مثلما قد كتب في الورقة العلمية لـ كانر Kanner “تم ذكر الأطفال الذين تختلف حالتهم بشكل ملحوظ وفريد”. كلا الورقتين العلمية موثوقة ممتعة وتلامس الوجدان، وكلتاهما تصف الأطفال الذين يواجهون تحديات في عملية تشخيص حالتهم الصحية ولكن من الواضح أنهم يقصدون ما يعرف الآن بالتوحد. وقدم كل من كانر Kanner و أسبرجر Asperger فئة تشخيصية جديدة لهؤلاء الأفراد.
الورقة العلمية لـِ كانر Kanner التي نشرت عام 1943، بعنوان “اضطرابات التوحد في التواصل العاطفي “قد لفتت الإنتباه كثيرًا، وفي غضون عام واحد تمت إعادة تسمية هذه الحالة بإسم “التوحد الطفولي المبكر” ومن ثم أصبح يعرف اسم “التوحد” أو “متلازمة كانر”. كان شرحه للحالة معتمد على ملاحظات أجريت على 11 طفلاً ممن قام بعلاجهم هو ورفقاؤه في عيادة بالتيمور Baltimore clinic بولاية ماريلاند Maryland.
وشملت ثلاث عناصر وهي: ظهور الأعراض مبكرًا في مرحلة الطفولة، عجز في التواصل والتفاعل الاجتماعي، سلوكيات مقيدة وتكرارية.
منذ الثمانينات وحتى يومنا هذا لا تزال هذه العناصر الثلاثة هي المعايير الرسمية المعتمدة في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية في الجمعية الأمريكية للطب النفسي the American Psychiatric Association’s Diagnostic and Statistical Manual of Mental Disorders وفي التصنيف الدولي للأمراض والمشكلات الصحية ذات الصلة International Classification of Diseases and Related Health Problems.
بالنسبة للورقة العلمية لـِ أسبرجر Asperger التي نشرت عام 1944، قدمت دراسات حالة لأربعة أطفال كشف عليهم هو وزملاؤه داخل العيادة في فيينا Vienna clinic، النمسا, Austria. ولأنها نشرت باللغة الألمانية في مجلة ألمانية خلال فترة الحرب التي أوقفت التبادل الأكاديمي عبر المحيط الأطلسي كان أثر الدراسة أبطأ بكثير فقد ظلت الورقة العلمية لعقود دون أن يلاحظها أحد خارج أوروبا.
هنالك تشابه كبير وفي نواحي عديدة بين وصف أسبرجر Asperger و كانر Kanner إلا أن أسبرجر Asperger أوضح جوانب من مستوى الذكاء والقدرات أكثر من كانر Kanner، ومع وصول بعض المشاركين في دراسته إلى مكانة بارزة في مجالاتهم. أطلق أسبرجر Asperger المصطلح التشخيصي وهو “الاعتلال النفسي التوحدي” ‘autistic psychopathy.’
ناقش العلماء أوجه الاختلافات الفعلية وهل الاختلاف جوهري أم مجرد اختلافات في سمات معينة. وقد ذكر أسبرجر Asperger لاحقاً بأن هناكأوجه تشابه بين متلازمة كانر والاعتلال النفسي التوحدي، ويرى أن الاختلافات تكمن في أن متلازمة كانر تقول أن التوحد الطفولي هو عملية ذهانية تضعف القدرات وغالبًا ما تكون بسبب مشاكل جسدية أثناء الولادة بينما هو اعتبر الاعتلال النفسي التوحدي “نوع شخصية” مستقر يظهر في مراحل الطفولة المبكرة.
وتم دمج الوصفين أخيراً في عام 1981 وذلك في ورقة علمية بعنوان “متلازمة أسبرجر: في حساب إكلينيكي”لِـ الطبيبة النفسية لورنا وينج Lorna Wing وقد ناقشت فيها أن مرضى كانر Kanner من ذوي التوحد الذين وصفهم أسبرجر Asperger بأسم “متلازمة أسبرجر” يعرفون الآن باسم “الطيف” وهم الأفراد الذين لديهم مجموعة من الصعوبات في التفاعل الاجتماعي، وقصور في فهم واستخدام اللغة، مع وجود سلوكيات نمطية تكرارية.
حثت الورقة العلمية لِـ وينج Wing على ضرورة الاهتمام الأكاديمي بمتلازمة أسبرجر والتوحد بشكل عام، كما إنها لفتت الانتباه نحو الأعمال المنتشرة عن التوحد مثل فيلم “Rain Man” عام 1988، فيلم عن السيرة الذاتية “Temple Grandin’s” عام 1986، وفيلم “Emergence: Labeled Autistic” الذي لفت انتباه الجمهور إلى حالة التوحد لأول مره.
أصبح اسم أسبرجر Asperger معروف في الأوساط الأكاديمية ومألوفًا مثل اسم كانر Kanner، وبعد هذا تم التأكيد على أنهما المكتشفان للتوحد أو مثل ما أطلق عليهم آدم فينشتاين Adam Feinstein في كتاب “تاريخ التوحد 2010” اسم “المكتشفان العظيمان”.
وفي العقد الماضي خلال حملات التنقيب عن الأوراق البحثية والمواد المؤرشفة التي تم تجاهلها منذ فترة طويلة أدى إلى التشكيك في أسبقية كانر Kanner و أسبرجر Asperger كـ”مكتشفين”. باحثًا واحداً كان كفيل بالتشكيك علمًا أن هنالك المزيد من الباحثين الأخرى الذين قد لعبوا ادواراً اساسية قد تلعب دوراً اساسي، ولم يتم التعرف عليها سابقًا.
الكشف المستمر ليس مجرد إضافة أسماء إلى قائمة “الرواد” أو “المكتشفين”، إنما مثل ما قال المؤرخ ستيفن هاسويل تود Stephen Haswell Todd أن العلم والطب لا يتقدمان بلحظات الاكتشافات الفردية بل من خلال تراكم العديد من الملاحظات والأفكار وتطويرها وهي – “عملية تدريجية للتفسير وإعادة التفسير ” – والتي بدورها تؤدي إلى طرق جديدة في الإدراك والتفكير.
التوحد حالة خاصة وملحوظة لم تتم ملاحظته فحسب بل تم تصويره بالتفصيل أكثر من مرة قبل أن يقننه كانر Kanner في عام 1943. كما أن كانر Kanner قد فاتته بعض الأوصاف ومع ذلك (تمتع بمكانة كونه مؤسس هذا المجال) أدرك كانر Kanner أن التوحد مجموعة من السمات المرئية، حتى ولو كان الأمر يعتمد على التواجد في مكان ووقت مناسب مع وضع مجموعة معينة من الأسئلة. كما قال في حديث عام 1969م: “لم اكتشف التوحد كان موجود من قبل”
يعود وصف الأفراد الذين من المحتمل أن يكونوا من ذوي التوحد إلى القرن الثالث عشر، لاحظت لورنا وينج Lorna Wing إنه في ذلك الوقت كان يوجد راهبًا يُدعى جونيبر Juniper أحد أتباع القديس فرنسيس Francis، الذي تم وصفه بأنه “بريء ساذج ويفتقر إلى الحس الاجتماعي والعقل السليم”، كما لقب بـ “مهرج الرب الشهير” “the renowned jester of the Lord,” تقول وينج Wing ربما يكون هذا الراهب من ذوي التوحد.
كشف اثنان من العلماء الروسيين في جامعة ميشيغان عام 1974م عن 36 فرداً ربما يكونوا من ذوي التوحد وكان يعيش هؤلاء “الحمقى القديسين” “holy fools” في عزلة ذاتية غير مهتمين بأفكار المجتمع، وفي القرن 1400 الميلادي تم إعلانهم قديسين من قبل الكنيسة الأرثوذكسية الروسية the Russian Orthodox Church.
كتبت وينج Wing في أواخر القرن 1700 وجد صبي يدعى فيكتور Victor كان يعيش في عزلة داخل غابات أفيرون بفرنسا وتلقى تعليمه من قبل الطبيب جان مارك غاسبار إيتارد Jean Marc Gaspard Itard “لا مجال للشك” هذا الصبي من ذوي التوحد.
تشير الأدبيات الطبية إلى حالات مشابهة بدأت في القرن 1800 مثل ما وصف الطبيب البريطاني جون لانغدون داون John Langdon Down لأول مرة المتلازمة الوراثية التي تحمل اسمه، ألقى الطبيب محاضرة عام 1887 حول العديد من الأطفال المميزين ممن لديهم قوة الحفظ.
في الغرب وخلال القرن 1800 ميلادي بدأت طريقة التفكير تتغير حيث أنه يعتمد وجود التوحد جزئيًا على فهم “مرحلة الطفولة” باعتبارها فترة مميزة من الحياة، ومن بين أوائل من وضعوا الطفولة على إنها مرحلة مقدسة وفترة تعليمية مهمة قبل مرحلة البلوغ هم الفلاسفة جون لوك John Locke و جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau عندما استعبدت الثورة الصناعية العديد من الأطفال للعمل في المصانع، لم يضغط الإصلاحيون فقط من أجل الحماية من هذا الاستغلال ولكن ايضاً من أجل حاجة الأطفال للمدارس والرعاية الطبية.
بحلول القرن العشرين من العصر الفكتوري ومع زيادة أطباء طب الأطفال تم افتتاح أول عيادات نفسية للأطفال وكان هذا الافتتاح مبني على طلب الباحثين في مجال التوحد. تم افتتاح واحدة من هذه العيادات في موسكو Moscow حيث عالجت الطبيبة النفسية اليهودية في أوائل العشرين من القرن الماضي 11 طفلاً 6 ذكور و 5 أناث من ذوي التوحد أطلقت عليهم بالبداية مسمى “الاعتلال النفسي الفصامي” ثم أعيدت تسميته لاحقًا باسم “الاعتلال النفسي التوحدي.” نشرت جرونيا سوخاريفا Grunya Sukhareva النتائج التي توصلت إليها في ورقتين علمية باللغة الألمانية – واحدة عام 1926 عن الذكور والثانية عام 1927 عن الإناث – حيث ذكرت أن الحالات تمثل مجموعة من الاضطرابات لم يتم التعرف عليها من قبل، وتعرف هذه الحالات اليوم على إنها أوصاف لأفراد من ذوي التوحد تتوافق سماتهم مع معايير أسبرجر Asperger و كانر Kanner ومع إرشادات التشخيص الرسمية الحالية في الدليل التشخيصي والإحصائي للإضطرابات النفسية وفي أماكن أخرى.
نشرت سوخاريفا Sukhareva أكثر من 150 ورقة علمية والعديد من الكتب، لتصبح أبرز طبيبة نفسية سوفيتية Soviet في جيلها. ومن أغرب الأشياء في دراسة تاريخ التوحد أن أعمالها كانت غير مرئية منذ ما يقارب قرن، اللغز الأكبر الذي لاحظته الطبيبة النفسية للأطفال البريطانية سولا وولف Sula Wolff عندما قامت في عام 1996 بترجمة ورقة علمية لـ سوخاريفا Sukhareva ترجع لعام 1926 وهو كيف لم يدرك كل من أسبرجر Asperger و كانر Kanner هذا العمل السابق والذي له علاقة بموضوعهم، عندما كتبوا تقاريرهم المحورية عامي 1943 و 1944.
عدم معرفة أسبرجر Asperger و كانر Kanner أمر ممكن ولكنه غير مرجح، لأنه كيف وكل من الرجلين قد قرأ أي شيء في طريقهم عن الأطفال المنعزلين والفصام والإعتلال النفسي لدى الأطفال. كان لدى كل رجل منهم فريق عمل جيد في القراءة ربما يكون أحدهم صادف أعمال سوخاريفا Sukhareva. استشهد كلاهما بمقالات أخرى بنفس المجلة التي نشرت فيها سوخاريفا Sukhareva اوراقها العلمية في عام 1926 و1927 في Monatsschrift für Psychiatrie und Neurologie ومقرها برلين وهي (مجلة شهرية في الطب النفسي وعلم الأعصاب، مجلة بارزة بين عدد قليل من المجلات الأوروبية التي تغطي التوحد والفصام). وفي مقال عام 1949 أشار كانر Kanner إلى أوراق علمية لـ سوخاريفا Sukhareva من عام 1932 قائلاً إن التوحد “يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالطبيعة الأساسية لمرض الفصام في مرحلة الطفولة بحيث لا يمكننا التمييز بينهما، خاصة مع الحالات بالمرحلة الأولى التدريجية التي ناقشها سوتشاريوا Ssucharewa“، فكيف تجاهل هو و أسبرجر Asperger عن أعمالها قبل ست سنوات؟