في الكثير من الحالات الصحية والنفسية فإنه يمكن تعداد الأعراض الأولية على سبيل المثال: الخوف من الأماكن الضيقة أو الدوار ووضعها لمعايير تشخيص حالة معين. لكن الوضع ليس كذلك مع اضطراب طيف التوحد. قال جيفري بيكر (بروفيسور في طب الأطفال والتاريخ في جامعة ديوك في دورهام بولاية نورث كارولينا) لقد أتخذ تاريخ التوحد مساراً غير مباشر مع عدة انعطافات.
في الأصل تم وصف التوحد على أنه شكل من أشكال انفصام الشخصية في مرحلة الطفولة وأنه نتيجة للوالدين الباردين (الحرمان العاطفي)، ثم كمجموعة من الاضطرابات النمائية، وأخيراً كحالة طيف مع درجات مختلفة من الضعف والقوة، إلى جانب هذه الآراء المتغيرة، أيضًا تغيرت معايير التشخيص للتوحد.
هنا كيف طوّر دليل التشخيص المستخدم في الولايات المتحدة وهو “الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية” (DSM) مفهومنا عن التوحد.
لماذا اعتبر التوحد في البداية كحالة نفسية؟
عندما وصف ليو كانر (الطبيب النفسي النمساوي و الأمريكي) التوحد لأول مرة في عام 1943م، كتب عن الأطفال الذين يعانون من “الوحدة الشديدة، العزلة” و “المصادات” و “الرغبة الشديدة في الحفاظ على التشابه، والروتين”. كما أشار إلى أن كثير من الأطفال كانوا أذكياء وبعضهم لديهم ذاكرة غير عادية (استثنائية).
نتيجة لذلك، كانت نظرة الطبيب كانر للتوحد على أنه اضطراب عاطفي شديد ولا يؤثر على الإدراك، تماشياً مع وجهة نظره، عرفت الطبعة الثانية من “الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية”DSM وهي DSM-II، والتي نشرت في عام 1952 م التوحد على أنه حالة نفسية، و شكل من أشكال الفصام في مرحلة الطفولة والتي تتميز بالانفصال عن الواقع. خلال الخمسينيات والستينيات، كان يعتقد أن التوحد يحدث بسبب البرود العاطفي عند الأمهات، والذي أطلق عليهم برونو بيتيلهايم لقب “الأمهات الثلاجة”.
متى تم التعرف على التوحد كاضطراب نمائي؟
في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، تم دحض مفهوم “الأم الثلاجة”، حيث أظهرت أبحاث كثيرة أن التوحد له أسس بيولوجية ويتركز في نمو الدماغ. الطبعة الثالثة من “الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية” DSM-III، الذي نُشر عام 1980 م، أكدت أن التوحد له تشخيصًا منفصلاً وتم وصفه بأنه “اضطراب النمو الشامل” وهو مختلف عن انفصام الشخصية.
الإصدارات السابقة من الدليل التشخيصي تركت معايير التشخيص مفتوحة لملاحظات الأطباء وتفسيراتهم، لكن الطبعة الثالثة من “الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية” DSM-III حددت المعايير المطلوبة للتشخيص. فقامت بتحديد ثلاث سمات أساسية للتوحد: وهي قلة الحماس تجاه الأشخاص، والضعف الشديد في التواصل، والاستجابات الغريبة (الشاذة وغير المقبولة) للبيئة، وكلها تتطور في الثلاثين شهرًا الأولى من حياة الطفل.
إلى متى استمرت هذه المعايير ؟
تمت مراجعة الطبعة الثالثة من الدليل التشخيصي DSM-III في عام 1978 مما أدى إلى تغيير كبير في معايير التوحد. حيث وسعت مفهوم التوحد من خلال إضافة النوع الخفيف في نهاية الطيف (اضطراب النمو الشامل – غير المحدد)(PDD-NOS) وإسقاط شرط تطور الأعراض قبل 30 شهرًا.
على الرغم من أن الدليل التشخيصي لم يستخدم كلمة “الطيف”، فإن الفهم المتغير والمتزايد بين الباحثين أثبت بأن التوحد ليس حالة واحدة بل هي طيف من الحالات التي يمكن أن تظهر في أي فترة من حياة الشخص.
حدد الدليل التشخيصي من الطبعة الثالثة 16 معيارًا في المجالات الثلاثة التي تم تحديدها مسبقًا، منها 8 معايير يجب وجودها للتشخيص. حيث سمح إضافة اضطرابات النمو الشاملة – غير المحددة (PDD-NOS) للأطباء بتضمين الأطفال الذين لم يستوفوا تمامًا معايير التوحد ولكنهم بحاجة إلى دعم نمائي أو سلوكي.
متى كانت أول مرة تم فيها تقديم التوحد على أنه “طيف”؟
كانت النسخة الرابعة من “الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية DSM-IV التي تم إصدارها في عام 1994 م ونُقحت في عام 2000 م؛ هي الطبعة الأولى التي صنفت التوحد كطيف.
سرد هذا الإصدار خمس حالات مع سمات مختلفة. بالإضافة إلى التوحد واضطرابات النمو الشاملة – غير المحددة (PDD-NOS)، أضاف “اضطراب أسبرجر”، في الطرف الخفيف الأعراض للطيف-اضطراب الانتكاس الطفولي (CDD) الذي يتميز بانتكاس وتراجع شديد في النمو- ومتلازمة ريت، التي تؤثر على الحركة والتواصل، خصوصا في الفتيات. التفكك كرر فرضية البحث في ذلك الوقت وهو أن التوحد وراثي، وأن كل فئة سيتم ربطها في النهاية بمجموعة من المشكلات والعلاجات المحددة.
لماذا أعتمد النسخة الخامسة من “الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية” DSM-5 فكرة الطيف المستمر؟
طوال التسعينيات، كان الباحثون يأملون في تحديد الجينات التي تساهم في حدوث التوحد. بعد الانتهاء من مشروع المجموع الوراثي البشري في عام 2003 م، حاولت العديد من الدراسات التركيز على قائمة “جينات التوحد”. لقد وجدوا المئات من الجينات، ولكنهم لم يتمكنوا من ربط جينات بشكل حصري وخاص بالتوحد. أصبح من الواضح أن العثور على الأسس الوراثية والعلاجات المتشابهة للسمات الخمسة المحددة في النسخة الخامسة من “الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية DSM-IV لن تكون ممكنة. عندها قرر الخبراء أنه من الأفضل وصف التوحد بأنه تشخيص شامل، يتراوح ما بين الخفيف إلى الشديد.
في الوقت نفسه، كان هناك قلق متزايد بشأن عدم تطابق التشخيص بين الأطباء والعيادات في مختلف الولايات عند تشخيص التوحد أو متلازمة أسبرجر أو اضطرابات النمو الشاملة – غير المحددة PDD-NOS، تشير الزيادة الحادة في انتشار التوحد في العقد الأول من القرن العشرين إلى أن الأطباء أحياناً يتأثّرون بضغط الآباء عليهم للحصول على تشخيص معين بناء على الخدمات المتاحة داخل منطقتهم.
لمعالجة هذا، وضعت النسخة الخامسة من “الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية” DSM-5 مصطلح “اضطراب طيف التوحد”. هذا التشخيص يوصف بمجموعتين من السمات، المجموعة الأولى هي “الصعوبات المستمرة في التواصل الاجتماعي المتبادل والتفاعل الاجتماعي” و المجموعة الثانية هي “أنماط السلوك المقيدة والمتكررة”، كلاهما يظهر الطفولة المبكرة. كل مجموعة تتضمن سلوكيات محددة، عدد معين يجب على الأطباء تحديده. الدليل التشخيصي استبعد متلازمة أسبرجر و اضطرابات النمو الشاملة – غير المحددة PDD-NOS والتوحد الكلاسيكي، لكنه ظهر لأول مرة في تشخيص اضطراب التواصل الاجتماعي ليشمل الأطفال الذين يعانون من قصور لغوي واجتماعي فقط. ولكن لأول مرة في تشخيص اضطراب التواصل الاجتماعي ليشمل فقط الأطفال الذين يعانون من قصور في اللغة و التواصل الاجتماعية، تمت إزالة اضطراب الانتكاس الطفولي ومتلازمة ريت من فئة التوحد.
لماذا ولد “الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية” DSM-5 النسخة الخامسة الكثير من القلق والجدل؟
حتى قبل إصدار النسخة الخامسة من الدليل التشخيصي في عام 2013 م فإن العديد من الأشخاص ذوي التوحد ومقدمي الرعاية كان لديهم قلق بخصوص تأثيره على حياتهم. شعر الكثيرون بالقلق بخصوص أنه بعد اختفاء تشخيصهم من الدليل التشخيصي، فقد يفقدون الخدمات أو تغطية التأمين الصحي. قال الأشخاص المصابون بمتلازمة أسبرجر أن التشخيص أعطاهم شعورًا بالانتماء وشرح تحدياتهم؛ حيث أنهم كانوا يخشون أن إزالة التشخيص سوف يفقدهم هويتهم، أو تقييد معدلات الانتشار بشكل كبير.
بعد مرور خمس سنوات، اتضح أن النسخة الخامسة من الدليل التشخيصي DSM-5 لم تقطع الخدمات المقدمة للأشخاص الذين تم تشخيصهم باضطراب طيف التوحد. ومع ذلك، تظهر مجموعة متزايدة من الأدلة أن معايير النسخة الخامسة من الدليل التشخيصي تستثني عددًا أكثر من الأشخاص ذوي السمات الخفيفة، والإناث والأفراد الأكبر سناً مقارنة في النسخة الرابعة من “الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية” DSM-IV.
هل هناك بديل للدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية DSM؟
يستخدم الأطباء في العديد من البلدان، بما في ذلك المملكة المتحدة، التصنيف الدولي للأمراض. الذي تم إصداره في التسعينيات، الإصدار الحالي من الدليل هو النسخة العاشرة. فقد جمع التوحد: متلازمة أسبرجر، متلازمة ريت، اضطراب الانتكاس الطفولي CDD و اضطرابات النمو الشاملة – غير المحددة PDD-NOS معًا في قسم “الاضطرابات النمائية الشاملة”، مثلما فعلت النسخة الرابعة من “الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية DSM-IV.
كيف يبدو مستقبل تشخيص اضطراب طيف التوحد؟
يستمر الخبراء في رؤية التوحد كطيف مستمر. في الوقت الحالي لا توجد تعديلات مقررة على الدليل التشخيصي DSM، ولكن اللغة في مسودة التصنيف الدولي للأمراض النسخة الحادية عشر ICD-11 – والتي من المتوقع أن تظهر لأول مرة في مايو 2018 م – التي تعكس معايير النسخة الخامسة من الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية DSM-5. في التصنيف الدولي النسخة 11 ICD-11 سوف تنتقل معايير التوحد إلى قسم جديد ومخصص هو “اضطراب طيف التوحد”.
يختلف التصنيف الدولي للأمراض النسخة الحادية عشر ICD-11 عن النسخة الخامسة من الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية DSM-5 بعدة طرق أساسية: بدلا من طلب عدد محدد أو مجموعة من السمات للتشخيص، فإنه يحدد قائمة بالسمات ويسمح للأطباء بتحديد ما إذا كانت سمات الفرد تتطابق أو لا. نظرا لأن التصنيف الدولي للأمراض معد للاستخدام عالمياً، كما أنه يضع معايير أوسع وأقل ارتباطاً بثقافة معينة عن ما يفعله الدليل التشخيصي النسخة الخامسة DSM-5. على سبيل المثال: يضع تركيز أقل على الألعاب التي يلعبها الأطفال مقارنة فيما إذا كان الأطفال يتبعون القواعد في تلك الألعاب. يميز التصنيف الدولي للأمراض النسخة الحادية عشر ICD-11 بين التوحد مع الإعاقة الذهنية وبدونها، ويسلط الضوء على حقيقة أن الأفراد الأكبر سناً في بعض الأحيان يخفون سمات التوحد لديهم.